فصل: فَصْلٌ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْلَمُ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ ضَرُورَةً:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ فِي قَدْرِ الْمُعْجِزِ مِنَ الْقُرْآنِ:

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي كُتُبِهِ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ مَا يُعْجَزُ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ السُّورَةُ قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً أَوْ مَا كَانَ بِقَدْرِهَا.
قَالَ: فَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ بِقَدْرِ حُرُوفِ سُورَةٍ وَإِنْ كَانَتْ كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ فَذَلِكَ مُعْجِزٌ قَالَ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي أَقَلِّ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ بِرَأْسِهَا فَهِيَ مُعْجِزَةٌ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ نَحْوُ قَوْلِنَا إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَ الْآيَةِ بِقَدْرِ السُّورَةِ بَلْ شَرَطَ الْآيَاتِ الْكَبِيرَةَ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ تَحَدِّيًا إِلَى السُّوَرِ كُلِّهَا وَلَمْ يَخُصَّ وَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا فعلم أن جميع ذلك معجزوأما قوله تعالى: {فليأتوا بحديث مثله} فَلَا يُخَالِفُ هَذَا لِأَنَّ الْحَدِيثَ التَّامَّ لَا تَتَحَصَّلُ حِكَايَتُهُ فِي أَقَلِّ مِنْ كَلِمَاتِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ وَهُوَ يُؤَكِّدُ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا وَإِنْ كَانَ قد يتأول قوله: {فليأتوا بحديث مثله} مثله على القبيل دون التفصيل وكذلك يحمل قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} على القبيل لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره.
فإن قيل: هل يعرف إعجاز السور القصار بما يعرف به إعجاز الطِّوَالِ وَهَلْ يُعْرَفُ إِعْجَازُ كُلِّ قَدْرٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي قَدَّرْتُمُوهُ عَلَى مَا تَعْرِفُونَ بِهِ إِعْجَازَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا؟
قُلْنَا: إِنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ قَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ سُورَةٍ قَدْ عُلِمَ كَوْنُهَا مُعْجِزَةً بِعَجْزِ الْعَرَبِ عَنْهَا وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْكُبَرَاءِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ يَقُولُ إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ ذَلِكَ تَوْقِيفًا وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَسَدُّ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا فِي أَنَّ الْأُولَى تُبَيِّنُ أَنَّ مَا عُلِمَ بِهِ كَوْنُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ سُورَةٍ قَصُرَتْ أَوْ طَالَتْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْكُلِّ وَاحِدًا وَالْأُخْرَى تَتَضَمَّنُ تَقْدِيرَ مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكْنَاهَا.

.فَصْلٌ:

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَحَدَّاهُمْ أَوَّلًا فِي الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَقَالَ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيرا} ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ وَقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} وَإِنَّمَا قَالَ: {مُفْتَرَيَاتٍ} مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْخَالِيَةِ وَالْقَصَصِ الْبَالِغَةِ فَقِيلَ لَهُمْ: مُفْتَرَيَاتٍ إِزَاحَةً لِعِلَلِهِمْ وَقَطْعًا لِأَعْذَارِهِمْ فَعَجَزُوا فَرَدَّهُمْ مِنَ الْعَشْرِ إِلَى سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِهِ مُبَالَغَةً فِي التَّعْجِيزِ لَهُمْ فَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادقين} أَيْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّهَا فِي نَظْمِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَجَزَالَتِهِ فَعَجَزُوا فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولن تفعلوا} مبالغة في التعجيز وإفحاما لهم {اتقوا النار} وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَعِيدِ مَعَ أَنَّ اللُّغَةَ لُغَتُهُمْ وَالْكَلَامَ كَلَامُهُمْ وَنَاهِيكَ بِذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ- لَعَنَهُ اللَّهُ- كَانَ سَيِّدَ قُرَيْشٍ وَأَحَدَ فُصَحَائِهِمْ لَمَّا سَمِعَهُ أُخْرِسَ لِسَانُهُ وَبَلُدَ جَنَانُهُ وَأُطْفِئَ بَيَانُهُ وَقُطِعَتْ حُجَّتُهُ وَقُصِمَ ظَهْرُهُ وظهر عجزه وذهل عقله حتى قال: فد عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ هَزَجَهُ وَرَجَزَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ! قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: فَسَاحِرٌ قَالَ: وَمَا هُوَ بِسَاحِرٍ قَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا عُقَدِهِ وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطُلَاوَةً وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى سَمِعْتُ قَوْلًا يَأْخُذُ الْقُلُوبَ قَالُوا: مَجْنُونٌ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ وَلَا بِخَنْقِهِ وَلَا بِوَسْوَسَتِهِ وَلَا رِعْشَتِهِ قَالُوا: كَاهِنٌ قَالَ: قَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكُهَّانِ وَلَا بِسَجْعِهِمْ ثُمَّ حَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَكَابَرَ حِسَّهُ فَقَالَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إلا قول البشر}.

.مسألة في أن التحدي إنما وقع للإنس دون الجن:

التَّحَدِّي إِنَّمَا وَقَعَ لِلْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ لِأَنَّ الْجِنَّ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} تَعْظِيمًا لِإِعْجَازِهِ لِأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلْأَفْرَادِ فَإِذَا فُرِضَ اجْتِمَاعُ جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَظَاهَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَعَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ كَانَ الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ أَعْجَزَ وَنَظِيرُهُ فِي الْفِقْهِ تَقَدُّمُ الْأَخِ الشَّقِيقِ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ الْأُمُومَةَ لَيْسَ لَهَا مَدْخَلٌ فِي النِّكَاحِ.

.فَصْلٌ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْلَمُ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ ضَرُورَةً:

قَالَ الْقَاضِي: ذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى أَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلَمُ ضَرُورَةً وَكَوْنُهُ مُعْجِزًا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ يُحْكَى عَنِ الْمُخَالِفِينَ وَالَّذِي نَقُولُهُ إِنَّ الْأَعْجَمِيَّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ إِعْجَازَهُ إلا استدلالا وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ بِبَلِيغٍ فَأَمَّا الْبَلِيغُ الَّذِي أَحَاطَ بِمَذَاهِبِ الْعَرَبِ وَغَرَائِبِ الصَّنْعَةِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ عَجْزِهِ وَعَجْزِ غَيْرِهِ عَنِ الإتيان بمثله.

.مسألة في الحكمة في تنزيه النبي عليه السلام عن الشعر:

قيل: للحكمة تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّعْرِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنِ الشُّعَرَاءِ بِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون وَأَنَّ لِلشِّعْرِ شَرَائِطَ لَا يُسَمَّى الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهَا شَاعِرًا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الشَّاعِرِ فَقَالَ إِنْ هَزَلَ أَضْحَكَ وَإِنْ جَدَّ كَذَبَ فَالشَّاعِرُ بَيْنَ كَذِبٍ وَإِضْحَاكٍ فَنَزَّهَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ وَعَنْ كُلِّ أَمْرٍ دَنِيءٍ وَإِنَّا لَا نَكَادُ نَجِدُ شَاعِرًا إِلَّا مَادِحًا ضَارِعًا أَوْ هَاجِيًا ذَا قَذْعٍ وَهَذِهِ أَوْصَافٌ لَا تَصْلُحُ لِلنَّبِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْعَرُوضِ مُجْمِعُونَ كَمَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِنَاعَةِ الْعَرُوضِ وَصِنَاعَةِ الْإِيقَاعِ إِلَّا أَنَّ صِنَاعَةَ الْإِيقَاعِ تُقَسِّمُ الزَّمَانَ بِالنَّغَمِ وَصِنَاعَةَ الْعَرُوضِ تُقَسِّمُهُ بِالْحُرُوفِ الْمُتَنَوِّعَةِ فَلَمَّا كَانَ الشِّعْرُ ذَا مِيزَانٍ يُنَاسِبُ الْإِيقَاعَ وَالْإِيقَاعُ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَاهِي لَمْ يَصْلُحْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ: «لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي».
وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْفَاظِ الْوَزْنِ فَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الشِّعْرَ وَمِنْ حَقِيقَةِ الشِّعْرِ قَصْدُهُ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الشِّعْرُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى دَالٌّ عَلَى مَعْنًى وَيَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ بَيْتٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ اتِّفَاقُ شَطْرٍ وَاحِدٍ بِوَزْنٍ يُشْبِهُ وَزْنَ الشِّعْرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ كَانَ إِذَا أَنْشَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ غَيَّرَهُ.

.فَصْلٌ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ الْقُرْآنَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا:

مَعَ أَنَّ الْمَوْزُونَ فِي الْكَلَامِ رُتْبَتُهُ فَوْقَ رُتْبَةِ الْمَنْظُومِ غَيْرِ الْمَوْزُونِ فَإِنَّ كُلَّ مَوْزُونٍ مَنْظُومٌ وَلَا عَكْسَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مبين} فأعلم سبحانه أَنَّهُ نَزَّهَ الْقُرْآنَ عَنْ نَظْمِ الشِّعْرِ وَالْوَزْنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَجْمَعُ الْحَقِّ وَمَنْبَعُ الصِّدْقِ وَقُصَارَى أمر الشاعر التحصل بِتَصْوِيرِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ وَالْإِفْرَاطُ فِي الْإِطْرَاءِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ وَالْإِيذَاءِ دُونَ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِثْبَاتُ الصِّدْقِ مِنْهُ كَانَ بِالْعَرْضِ وَلِهَذَا قال تعالى: {وما هو بقول شاعر} أَيْ كَاذِبٍ وَلَمْ يَعْنِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ فَإِنَّ وَزْنَ الشِّعْرِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُنْفَى عَنْهُ وَلِأَجْلِ شُهْرَةِ الشِّعْرِ بِالْكَذِبِ سَمَّى الْمَنْطِقِيُّونَ الْقِيَاسَاتِ الْمُؤَدِّيَةَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِلَى الْبُطْلَانِ وَالْكَذِبِ شِعْرِيَّةً.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مَا وَافَقَ شِعْرًا مَوْزُونًا إِمَّا بَيْتٌ تَامٌّ أَوْ أَبِيَّاتٌ أَوْ مِصْرَاعٌ كَقَوْلِ الْقَائِلِ:
وَقُلْتُ لَمَّا حَاوَلُوا سَلْوَتِي

{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لما توعدون}.
وقوله: {وجفون كالجواب وقدور راسيات} قَالُوا هَذَا مِنَ الرَّمَلِ وَكَقَوْلِهِ: {وَمَنْ تَزَكَّى فإنما يتزكى لنفسه} قالوا هو مجزوء مِنَ الْخَفِيفِ وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} قَالُوا هُوَ مِنَ الْمُتَقَارِبِ أَيْ بِإِسْقَاطِ (مَخْرَجًا) وَقَوْلِهِ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} وَيُشْبِعُونَ حَرَكَةَ الْمِيمِ فَيَبْقَى مِنَ الرَّجَزِ وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ ضَمَّنَهُ فَقَالَ:
وَفِتْيَةٍ فِي مَجْلِسٍ وُجُوهُهُمْ ** رَيْحَانُهُمْ قَدْ عَدِمُوا التَّثْقِيلَا

دَانِيَةً عَلَيْهِمُو ظِلَالُهَا

{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} قَالُوا: هُوَ مِنَ الْوَافِرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قَالُوا: هُوَ مِنَ الْخَفِيفِ وَقَوْلِهِ تعالى: {والعاديات ضبحا فالموريات قدحا} ونحوه قَوْلِهِ: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} وَهُوَ عِنْدَهُمْ شِعْرٌ مِنْ بَحْرِ الْبَسِيطِ وَقَوْلِهِ تعالى: {ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مما تحبون} وقوله تعالى: {فلا فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلا من رحم} وقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قد سلف} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ موسى}.
ويحكى أنه سمع أعرابي قارئا يقرأ {يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عظيم} قال: كسرت إنما قال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} فَقِيلَ لَهُ: هَذَا الْقُرْآنُ وَلَيْسَ بِشِعْرٍ.
فَالْجَوَابُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ الْفُصَحَاءَ مِنْهُمْ لَمَّا أُورِدَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَوِ اعتقدوه شعرا ولم يروه خارجا عن أساليبهم لَبَادَرُوا إِلَى مُعَارَضَتِهِ لِأَنَّ الشِّعْرَ مُنْقَادٌ إِلَيْهِمْ فلما لم يعمدا إِلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ ذَلِكَ فَمَنِ اسْتَدْرَكَ فِيهِ شِعْرًا زَعَمَ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ وَهُمْ مُلُوكُ الْكَلَامِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَالْغَضِّ مِنْهُ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى تَكْذِيبِهِ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ فَلَنْ يَجُوزَ أَنْ يَخْفَى عَلَى أُولَئِكَ وَأَنْ يَجْهَلُوهُ وَيَعْرِفَهُ مَنْ جَاءَ الْآنَ فَهُوَ بِالْجَهْلِ حَقِيقٌ.
وَحِينَئِذٍ فَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَنْ هَذَا بأن الْبَيْتَ الْوَاحِدَ وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِهِ لَا يَكُونُ شِعْرًا وَأَقَلُّ الشِّعْرِ بَيْتَانِ فَصَاعِدًا وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالُوا: أَيْضًا إِنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ بَيْتَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ وَزْنُهُمَا وَقَافِيَتُهُمَا فَلَيْسَ بِشِعْرٍ أَصْلًا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ أَصْلًا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَشْطُورًا أَوْ مَنْهُوكًا وَكَذَا مَا يُقَارِبُهُ فِي قِلَّةِ الْأَجْزَاءِ وَعَلَى هَذَا يسقط السؤال.
ثم يقول: إِنَّ الشِّعْرَ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ مَتَى قُصِدَ إِلَيْهِ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي تُعْمَدُ وَتُسْلَكُ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّفِقَ مِثْلُهُ إِلَّا مِنَ الشُّعَرَاءِ دُونَ ما يستوي فيه العامي والجاهل والعالم بالشعر واللسان وتصرفه وَمَا يَتَّفِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فَلَيْسَ بِشِعْرٍ فَلَا يُسَمَّى صَاحِبُهُ شَاعِرًا وَإِلَّا لَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ شُعَرَاءَ لِأَنَّ كُلَّ مُتَكَلِّمٍ لَا يَنْفَكُّ أَنْ يَعْرِضَ فِي جُمْلَةِ كَلَامِهِ مَا يَتَّزِنُ بِوَزْنِ الشِّعْرِ وَيَنْتَظِمُ بِانْتِظَامِهِ.
وَقِيلَ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ مِنَ الرَّجَزِ شِعْرًا أَرْبَعَةُ أَبْيَاتٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ بِحَالٍ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي الْجَوَابِ مُعْتَمَدَةٌ أَوْ أَكْثَرُهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شِعْرًا لَكَانَتِ النُّفُوسُ تَتَشَوَّقُ إِلَى مُعَارَضَتِهِ لِأَنَّ طَرِيقَ الشِّعْرِ غَيْرُ مستصعب على أهل الزمان الواحد وأهله يتقاربون فيه أو يضربون فيه بسهم.